من صاحب الضربة الأولى؟ مصر أم إسرائيل؟ سؤالٌ يتكرّر بقوة على خلفية موجة الاستفزازات الإسرائيلية الأخيرة تجاه مصر. بينما تبدو الضغوط السياسية والإعلامية والإقليمية على أشدها، يقف السؤال الأكبر: هل ستسمح القاهرة بمساحة للتهجير أم سترد مباشرة على أي اعتداء يهدد أمنها القومي؟
سياق الاستفزازات الإسرائيلية
خلال الفترة الأخيرة، سجّلت مؤشرات عديدة على أن سلوك إسرائيل تجاه غزة ومحيطها لم يعد كما كان عليه مع توقيع معاهدة السلام. تصاعدت حملات الاستهداف، وارتفعت أصوات تدعو لعمليات واسعة قد تؤدي إلى نزوح جماعي للسكان. في هذا السياق، تبدو القيادة الإسرائيلية السابقة — وخاصة في خطاب بعض المسؤولين — وكأنها تختبر سقوف ردود الفعل الإقليمية.
في مخططات قيادية ظهرت خلال السنوات الماضية، أُشير إلى أن عنصر الضغط الديموغرافي والعمليات المكثفة في غزة قد يؤديان إلى نتيجة واحدة: تهجير أو نزوح كبير. مثل هذا السيناريو يضع مصر في مواجهة خيارين لا ثالث لهما: إما القبول بموجة تهجيرٍ جماعي، أو التورط العسكري تحت ضغط شعبي وإقليمي. ومن هنا تتبدّى خطورة المشهد.
لماذا تعتبر إسرائيل التورط المصري بمثابة “حلم الموقف”؟
يمكن لنخبة إسرائيل أن ترى في توريط مصر دفعة استراتيجية: تبرير أوسع للتحرك العسكري أو تنفيذ سياسات على الأرض تُعدّها إسرائيل جزءاً من مخطط مستقبلي. لكنّ هذه القراءة تبسيطية وتجهل حساباتَ قوة القاهرة الحقيقية. مصر لم تعد 1967، ولا حتى 1973. ذلك التاريخ العسكري والسياسي الماضٍ يحمل معه دروساً أليمة لمن يستخفّ بالقوة المصرية وإرادتها.
مقارنة تاريخية موجزة: 1967 و1973
الأحداث في 1967 أدّت إلى هزيمةٍ أدت لمراجعات استراتيجية كبيرة في الدول العربية، ومن ضمنها مصر. أما 1973 فكانت درساً عملياً في القدرة على مفاجأة الخصم وتحقيق إنجازات ميدانية أدّت إلى سقوف تفاوضية مختلفة. القادة الإسرائيليون، ولا سيما من شهدوا تلك الحقبة، يذكرون جيداً الرعب الذي شكّلته جبهة مصر في موازين القوى.
لا ينبغي تجاهل عامل المساعدات الخارجية الذي لعب دوراً حاسماً في منع تردٍ أكبر لصالح إسرائيل عام 1973. سياسات التحشيد الخارجي وإرسال الإمدادات العسكرية ساهمت في إعادة التوازن مؤقتاً. لكنّ هذا لا يعني أن مصر خسرت القدرة على التأثير؛ بل على العكس، القاهرة تعلم جيداً أن الاعتماد على الحماية الخارجية ليس أمناً دائماً.
دوافع الاستفزاز: هل الهدف التهجير أم اختبار رد الفعل؟
في كثير من الأحيان، تعمل الدول على اختبار ردود فعل خصومها وسواها عبر استفزازات متدرجة. إذا كانت القيادة الإسرائيلية تتبنّى خيار التصعيد بهدف دفع مصر لقبول تهجير سكان غزة، فذلك يُظهر قراءة خاطئة جداً لطبيعة النظام المصري ومصداقيته أمام شعبه والمنطقة.
المعادلة بسيطة: إذا تواصلت المجازر وارتفع عدد الضحايا والمدنيين المتضررين فستتزايد الضغوط الشعبية في مصر والدول العربية، مما قد يدفع إلى تحرّكات سياسية أو شعبية تضطر القاهرة للتدخل بطرق متعددة — دبلوماسياً أو بتشجيع تحركات إقليمية، أو — وهو الأقل تفضيلاً لدى القيادة — التدخّل المباشر.
هل مصر جاهزة لتجنّب تكرار أخطاء الماضي؟
المؤكد أن القاهرة تعلمت من 1967 و1973. لقد طوّرت قدراتها، واحتفظت بخبرات عسكرية وتنظيمية وسياسية من تلك الفترات. القيادة السياسية في مصر لديها معرفة واضحة بكيفية إدارة ملف محفوف بالمخاطر، وتعرف أن أي خطأ قد يكلّفها ثمناً باهظاً.
الأسئلة هنا: هل ستبقى مصر ملتزمة بالمسار الدبلوماسي رغم استفزازات متواصلة؟ وما هو الثمن السياسي والاجتماعي الداخلي إذا ما استمرت المجازر أثناء سكونٍ دبلوماسي؟ التاريخ يعلّم أن شعور الغضب الشعبي يمكن أن يضغط بشدّة على صانعي القرار، لكن القاهرة أيضاً قادرة على ضبط المعادلات إذا رأت أن التدخل المنظّم والمدروس يخدم مصالحها الاستراتيجية.
الحسابات الإقليمية والدولية
لكل قرار مصري أو إسرائيلي امتدادات إقليمية ودولية. إدراك القاهرة لضعف الاعتماد على الطرف الغربي في أزماتٍ كبرى يجعلها أكثر تحفظاً في المواقف الحربية. كما أن أي اشتباك مع إسرائيل يفتح الباب لتدخلات دولية قد لا تخدم الاستقرار الإقليمي.
في المقابل، إسرائيل تعلم أن جبهة مصر تمثل تهديداً استراتيجياً حقيقياً، وهذا ما يدفعها — بحسب بعض التحليلات — لمحاولة الاستدراج أو الاستفزاز ضمن مساحة محسوبة. لكن خطر التورط المصري الكامل يجعل رهانات إسرائيل على ردود الفعل أقل وضوحاً وذات نتائج غير مضمونة.
سيناريوهات محتملة
- التهدئة والدبلوماسية: تواصل القاهرة العمل دبلوماسياً مع شركائها والإدارة الدولية للضغط على إسرائيل لوقف العمليات أو تقليصها. هذا السيناريو يعتمد على قدرة الضغوط الدولية على تغيير المعطيات الميدانية.
- تصعيد إقليمي محدود: استخدام قنوات إقليمية (دول أو فصائل) لممارسة ضغوط عملية على الأرض دون تدخل عسكري مباشر من الجيش المصري.
- التورط المباشر: وهو السيناريو الأسوأ والذي قد يظهر فقط بعد تصاعد لا يمكن احتواؤه شعبياً أو بعد عملية كبيرة تُعتبرها القاهرة خطاً أحمر.
- توازن متغير: وضع حالة إستراتيجية جديدة حيث تبقى مصر في موقع ضاغط دبلوماسياً مع استعدادٍ دفاعي يحول دون أي عملية تهجير واسعة.
من سيكون صاحب الضربة الأولى؟
من الصعب التنبؤ بمن سيطلق الضربة الأولى في حال تصاعد الصراع. الحسابات متشابكة: استراتيجية إسرائيل، الضغوط الشعبية والإقليمية، وتحفظات القاهرة كلها عوامل متداخلة. لكن ما يبدو واضحاً هو أن مصر، بحكم تاريخها العسكري والسياسي وتجاربها، ليست مرشحة للقبول السهل بتهجير جماعي، ولن تكون برقعة سهلة على رقعة الشطرنج الإقليمية.
القضية ليست فقط من يضغط على الزناد، بل من يمتلك الرغبة والقدرة على تحمّل تبعات الضربات المتبادلة. في هذه المعادلة، الجبهة المصرية تبقى رقماً لا يستهان به — وهو ما يضيف طابعاً من الحذر لدى أي جانب يفكر في فتح ملفٍ عسكري شامل.